انتشار المذهب المالكي في المملكة العربية السعودية: (الأحساء)

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

الأحساء بلدة معلوم سبق أهلها للإسلام وفضلهم وثباتهم حين ارتدت العرب”، ولكن لا نعلم بعد أن استقرت المذاهب الأربعة من منها كان له تلاميذ وأتباع أكثر في الأحساء ونواحيها من الخليج؟ إلا أن الدلائل تشير إلى أن مذهب مالك كان هو السائد في وسط وشرق الجزيرة لسبب وجيه ، وهو أنها محصورة بين الحجاز والبصرة وجنوب العراق، وكان الغالب

على البصرة وجنوب العراق المذهب المالكي فمن الطبيعي أن تكون الأحساء ونجد كذلك . قال القاضي عياض: «فكانت المدينة كلها على ذلك الرأي (المذهب المالكي) وخرج منها إلى جهات من الحجاز واليمن. . واستقر في بلاد العراق بالبصرة، فغلب عليها بابن مهدي (توفي ١٩٨)

(توفي ٢٢١) وغيرهما ثم بأتباعهم . . . وآل حماد بن زيد إلى أن دخلها بعض الشافعية فتشارك المذهبان جميعاً . والقعنبي ودخل أيضاً من أئمة هذا المذهب إلى بلاد فارس القاضي أبو عبد الله الرنكاني، ولي قضاء الأهواز وانتشر عنه هذا المذهب، وغلب على بلاد فارس مذهب داود». كان يقول النبهاني (من أعيان القرن الرابع عشر): «فالعرب الأصليون من أهل البصرة يتمذهبون بمذهب الإمام مالك، ومن حنفياً فاصله من بغداد أو الموصل أو من موظفي الدول العثمانية، ومن كان منهم شافعياً فأصله من الأكراد أو من أهل فارس، ومن كان منهم حنبلياً فاصله من نجد» ويقول عن لواء المنتفق (الواقع جنوب بغداد وشمال البصرة) : «جميع المنتفق وآل سعدون وقسم من عشائرهم يقلدون مذهب الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه، وأما بقية العشائر فمنهم شيعة جعفرية . وقسم حنابلة نجدية»)، مع ملاحظة أن الحنابلة النجدية ما أتوا للعراق إلا بعد ظهور دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب فكثروا بنواحي نجد ومنها رحلوا للبصرة وغيرها . فالأحساء على هذا الحال لا بد أن تكون أخذت بالمذهب المالكي مع وجود التشيع في القطيف إلى أن غلب القرامطة على الأحساء وما حولها في القرنين الرابع والخامس، فآذوا أهل السنة وقتلوا العلماء منهم  والوجهاء من أهل البلاد، وعطلوا الجمعة والجماعات . أشرق نور الـعـيـونـيـيـن عـام 470 عندما قضى البطل المجاهد الله بن علي العيوني على آخر فلول القرامطة، فأراح الأمة الإسلامية من شططهم . وليس أمامنا دليل على كون العيونيين مالكية إلا الدليل السابق، مع أن

كثيراً من الأعراب ظل متشيعاً وزال ذلك عنهم تدريجياً بعد انقراض القرامطة . وقد اعتنت الدولة العيونية ببناء المساجد والمدارس كما أشرنا لذلك امتد حكـم الـعـيـونـيـيـن إلى منتصف القرن السابع حيث جاء العصفوريون، وملكوا الأحساء وما حولها ما يقارب قرناً من الزمان . والأكثر أن العصفوريين مالكية كذلك . من الملاحظ أنه في عهد العصفوريين بدأت هجرات من بلاد فارس وخوارزم وتلك الجهات إلى السواحل العربية للخليج العربي إثر هجمات المغول، لأن هذه الجهة أكثر أمناً من غيرها كما أشار لذلك الدكتور الحميدان في بحثه عن إمارة العصفوريين. ومع هؤلاء قدم المذهب الشافعي وأصبح له وجود في الأحساء وبعض حواضر الخليج . وفي القرن الثامن استولى على البلاد بنو جروان، وهم شيعة غلاة مركزهم القطيف، ولم يؤثروا على أهل السنة ولم يؤثروا على أهل السنة في الأحساء بشيء إلا أنه أضحى للشيعة وجود خافت في الأحساء وبعض قراها، فنجد ابن بطوط عندما زار المنطقة عام ٧٣٢ مر بجزيرة البحرين والأحساء والقطيف ۷۳۲ واليمامة ولم يذكر من تشيعها إلا القطيف حيث قال: «تسكنها طوائف العرب وهم رافضية غلاة يظهرون الرفض جهاراً لا يخافون أحداً، ويقول مؤذنهم . . . » . وعلى كل حال فإن هذه الفترة الغامضة نسبياً قد قالت فيها دائرة المعارف: «وقد كانت الأحساء من مراكز الدراسات المالكية المهمة في القرون الوسطى»، أي (٤٨٤ -(۸۰۲ وأطـلـت عـلـيـنـا فـي الـقـرن الـتـاسع دولة آل جـبـر الـمـالـكية المذهب ، واستمرت قرنين من الزمان إلى نهاية القرن العاشر وسنترجم لملكين من ملوكهم لنرى مدى تأثرهم واهتمامهم بالمذهب المالكي :

الأول : أجود بن زامل العقيلي الجبري (۸٢١ – ۹۱۰) ضم في الأحساء بقية دول الخليج ونجد، وهو مالكي المذهب له إلمام ببعض فروع المالكية، واعتناء بتحصيل كتبهم، وجعلهم من قضاته وأبطل قضاة الشيعة في مناطقهم، وكان شجاعاً كريماً فوق الوصف.

الثاني : صالح بن يوسوف (سيف) بن الحسين (۰۰۰ – ۹۳۱) كان مالكياً متبحراً في الفقه والحديث، وله مشاركة جيدة في الأصول والنحو.

وكان محباً للعلماء والصلحاء، مقداماً، عادلاً في ملكه وقد زاد انتشار المذهب المالكي في الأحساء ودول الخليج ونجد

المدرسة الأميرية في الأحساء
المدرسة الأميرية في الأحساء

في عهدها . هذا العهد وعلى وجه التحديد في أواخر القرن التاسع بدأت هجرات جديدة من أهل السنة في فارس إلى دول الخليج نظراً لما لاقوه من تشريد وتقتيل من الدولة الصفوية)، فأصبح للشافعية وجود ظاهر في حواضر مدن الخليج والأحساء . وفي النصف الثاني من القرن العاشر دخل العثمانيون الأحساء، ولم يكن لهم تأثير فكري، إلا أنهم أدخلوا في هذه الفترة المذهب الحنفي الأحساء ، لم يتعد المذهب الشافعي والحنفي والحنبلي إلى القرى والبوادي إلا ما كان من المذهب الحنبلي بعد دخول الدولة السعودية . ومن خلال رحلة العياشي التي قام بها للحج عام 1076 التقى بعالمين مالكيين من أهل الأحساء أحدهما لقيه بالمدينة، قال عنه : الشيخ علي الضرير المالكي الأحسائي جاور بالمدينة مدة طويلة، وله بعض معرفة بمذهب مالك، وذكر أنه جلس لتدريس رسالة ابن أبي زيد وغيرها عند المنبر النبوي أما الآخر فلعله لقيه بمنى حيث قال عنه: «ولقيت الشيخ سليمان ابن الشيخ عبد العزيز الحسائي من مدينة الأحساء بالموصل!؟ وتكلمنا معه فوجدت له مشاركة حسنة في كثير من العلوم وصارت بيني وبينه ألفة ،  وأهدى إلي من ثمار بلدهم وهو أجود أنواع التمر» . ولا يخفى تعلق المالكي بالمغرب بالمالكي الذي يراه في الحج منالمشرق لكونهما من مدرسة واحدة .

وبعد الأتراك يمكن القول بأن حكم بني خالد قد استمر على الأحساء إلى أواخر القرن الثاني عشر، أي مدة قرن وربع تقريباً، وهم أهل الشوكة في البلاد والقوة والكثرة في البوادي والقرى .

وعندما تحدث ج.ج. لوريمر عن هذه القبيلة ذكر أنهم أكثر القبائل في منطقة الأحساء ومدنها الشمالية والجنوبية وهم مالكية وقد التقى الورثيلاني المتوفى عام 1193 في رحلته للحج بأحد المالكية من منطقة البحرين شرقي الجزيرة العربية. قال عنه: «ضرير فقيه عظيم يحفظ أكثر الشروح، وهو مالكي من جزيرة العرب، أعني البحرين، فلما سألته عن أكثر أهلها فقال : مالكيون» ولكن بعد أن قويت الدولة السعودية ونشطت دعوة الشيخ محمد ابن عبد الوهاب وانتشرت في سائر الجزيرة صار للمذهب الحنبلي وجود قوي في الأحساء والبوادي المحيطة بها أما القرى فلم تزل مالكية إلى عهد قريب، مع ملاحظة وجود علماء كبار من الشافعية والأحناف، والشافعية أكثر، ولكن انتشار هذين المذهبين لم يتعد مدينة الأحساء، فلم يكن لهما تأثير لا على القرى ولا البوادي ولا النظام الاجتماعي والزراعي .

وقد وقفت على وثيقة في القرن الثاني عشر عن مشكلة المياه وتوزيعها تدخل في كتابتها علماء مالكية وشافعية وحنابلة، مفادها أن القاضي الشافعي أو الحنبلي ينبغي عليه أن يحكم في هذه القضية بمذهب مالك أو إذا رفعت إليه يحيلها للقاضي المالكي، وبعض عباراتها : فلما تعذرت هذا الماء على مذهب الإمام الشافعي تعين السلوك فيه طريقة ذلك الإمام

الألمعي – مالك ـ لكونه الذي ترتب عليه البلاد وجرى عليه العمل . فالعبارة دالة على أن مذهب مالك قد تغلغل في جميع شؤون حياتهم، وترتب الماء قديم جدا له قرون متطاولة، وهذا يدل على قدم مذهب مالك وسيطرته على هذه البلاد .

أخذ المذهب الحنبلي في الازدياد حتى ناصف المذهب المالكي في البلاد بل ربما كان هو الغالب حسب تعبير ف .ش. فيدال وذكر أن الشافعية والأحناف قلة وأعطى المذهب المالكي المرتبة الثانية. أما أحمد تيمور باشا المتوفى 1348 فقال: «والغالب على أهل السنة في الأحساء الحنبلي والمالكي» . وبمثل هذه العبارة قال

عبد الرحمن حسن وقالت دائرة المعارف: «وأكثر مذاهب السنة اتباعاً فيها المذهب الحنبلي ثم المذهب المالكي، على أن من سكانها من ينتمي إلى المذهبين الآخرين كذلك».

أما الشيعية فيقول: لوريمر : «وفي الأحساء توجد أقلية شيعية قوية»، ويقذرهم محمود شاكر بثلث سكان الأحساء ومعظم سكان القطيف، إلا أن ف .ش. فيدال قذرهم بنحو النصف، وربما يكون هذا صحيحاً إذا نظر للهفوف والمبرز وقراهما فقط .

المصدر: 

مقدمة تحقيق سماحة الشيخ الدكتور عبد الحميد آل الشيخ مبارك حفظه الله تعالى لكتاب تسهيل المسالك إلى مذهب الإمام مالك.