الأصول التي بني عليها المذهب المالكي

بقلم الشريف د. عبد الرحمان بن إبراهيم بن حسن العلوي كتبها خصيصًا لموقع المذهب المالكي في إقليم البحرين

بسم الله الرحمن الرحيم

تمهيد

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا المصطفى المبعوث رحمة للعالمين، الذي بيّن للنّاس شريعة خالقهم، المفضية إلى فلاحهم، وأفتاهم في أمور دينهم، فكان أول المفتين عن رب العالمين، وأقام العلماء بعده مقامه فكانوا بذلك ورثته في إفتاء المستفتين، ليعملوا بما علِموا تنويرا لبصيرتهم و إرضاء لربهم، وتحقيقا لفوزهم.

 وبعد: فإن العِلم أعلى ما تسمو إليه النفوس الفواضل، وأبهى ما ترنو إليه العقول الأوائل، وأنهى ما تصعد إليه أعناق العزائم، وأشهى ما تميل إليه أفئدة الصرائم، إذ كمالها فيه واشتغالها بعد مفارقة أجسادها به حين يُحال بينهما وبين الأفهام، ويمنع عنها هواها، فلولا لها ما يشغلها عنها ويذهلها عن دوافعها لكانت معذبة دائمًا بالالتفات إليها، كالمغرم الفارع الممنوع؛ وإلى هذا المعنى وقعت الإشارة في التنزيل: {وَأَنَّىٰ لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ}[سبأ:52]، {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُۚ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُّرِيبٍ}[سبأ:54].

ثم لا يخفى أنَّ العلوم تتفاوت مراتبها وشرفها، بسبب معلوماتها ومسيس الحاجة إليها، واحتياج غيرها من العلوم إليها وخاصة ضدها، ووثاقة براهينها وقواعدها، فكان علم الفقه وقواعدِه جواده الذي لا يُلحق، وحبله المتين الذي هو أقوى وأوثق، فإنّه قاعدة الشارع، وأصلٌ يُرد إليه كل حادثٍ، وقد أشار المصطفى ﷺ في جوامع كلمه إليه، ونبَّه أرباب اللّسان عليه، فصدر في صدور الأُول منه جملة سنية، ورموز خفيّة، حتى جاء الإمام المجتهد أمير المؤمنين في الحديث مالك بن أنس الأصبحي رضي الله عنه فاهتدى بمناره، ومشى إلى ضوء ناره، فجمع هذا الغرض السَنِيّ، وأظهر دفائنه، وأبرزه في أكمل معنى وأجمل صورةٍ.

ثم جاء من بعد مالك قومٌ من تلامذته بيَّنوا وأوضحوا، وبسطوا وشرحوا، حتى تمحورت حول آراءه واجتهادات مدارس مختلفة، فوَسَّعوا عباراتِه، وفَكُّوا إشاراتِه، وبيَّنوا إجمالَه، ورَفعوا إشكالَه، ثم مَن جاء بعدهم اقتفى أثرَهم.

فهذه الجهود مرتكزة ومعتمدة على علم الإمام واجتهاده، وما تقرَّر من أصوله وقواعده وفقهه، فخير العلوم ما اصطحب فيه الشرع والعقل، وأفضل الفنون ما اجتمع فيه الأثر والنظر، وأشرف الوسائل ما كان ذريعةً لأشرف المقاصد وأفضلها، وأعظم اجتهادٍ ما بُنِيَ عليه غيره وتفرع عنه، والمذهب المالكي -أُصوله وقواعدُه- من هذا القبيل، فهو الجامع بين صحيح المنقول وصريح المعقول.

فمما سبق تقرَّر معنا أنَّ المذهب المالكي هو المدرسة التي اتخذت أقوال الإمام مالك بن أنس (ت/179هـ) مداراً للعمل والفتيا والتقليد، وجعلت أصوله وفروعه مناط الدرس والاتباع، مع قدرٍ من الاجتهاد والتصحيح والتوجيه لأئمة المذهب المجتهدين، شأن غيره من المذاهب المتبوعة في ذلك.

ويعد مذهب الإمام مالك وسطاً معتدلاً بين أهل الرأي([1]) وأهل الحديث، لكثرة استناده إلى الحديث، إذ كانت روايته قد انتشرت، ولا سيّما المدينة، وكان الإمام يعتمد على الحديث النبوي كثيراً، نظراً لبيئته الحجازية، التي كانت تزخر بالعلماء والمُحدِّثين، الذين تلقوا الحديث النبوي عن الصحابة، وورثوا من السنة ما لم يُتح لغيرهم من أهل الأمصار؛ يشهد لذلك قول الإمام محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله: ما ظهر على الأرض كتابٌ بعد كتاب الله أصح من كتاب مالكٍ، وفي رواية أكثر صواباً، وفي رواية أنفع.

على أنّ الإمام مالكاً يُعد إلى جانب ذلك من أهل الرأي([2])؛ لأنَّ مذهبَ كثيرٍ من أهل الحجاز، وخاصةً في المدينة المنورة، كان يميل إلى الرأي أيضًا من خلال الأخذ بالمصالح المرسلة، والاستحسان، والقياس، وسد الذرائع، والاستصحاب([3]).

* * *

أبرز الخصائص الأُصوليِّين للمدرسة المالكيَّة

وأذكر هنا أبرز خصائص المدرسة المالكيَّة الأُصوليِّين في عجالةٍ على سبيل تحصيل صورة مُجمَلةٍ، وتشكيل علامةٍ أوَّليَّةٍ للأمر المقصود.

يقول الذهبي في ذلك: “فإلى فقه مالك المنتهى، فعامة آرائه مُسدَّدةٌ، ولو لم يكن له إلا حسم مادة الحيل، ومراعاة المقاصد، لكفاه؛ ومذهبه قد ملأ المغرب والأندلس، وكثيراً من بلاد مصر، وبعض الشام، واليمن، والسودان، وبالبصرة، وبغداد، والكوفة، وبعض خراسان”([4]).

وقال أيضاً: قال الإمام الشافعي: العلم يدور على ثلاثة: مالك، والليث، وابن عيينة([5])؛ وقال ابن معين: مالكٌ من حجج الله على خلقه؛ وقال أسد بن الفرات: إذا أردت الله والدار الآخرة ، فعليك بمالك([6]).

وقال ابن تيمية عن صحة أصول مذهب أهل المدينة ما مُجمَلُه([7]): إنَّ مذهب أهل المدينة النبوية في زمن الصحابة والتابعين وتابعيهم: أصح مذاهب أهل المدائن الإسلامية شرقًا وغربًا في الأصول والفروع.

وهذه الأعصار الثلاثة هي أعصار القرون الثلاثة المفضلة، التي قال فيها النبي ﷺ – كما في الصحيحين- عن عبدِ اللَّهِ بن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عنهُ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ»([8]).

([1]) وقد توسع أحياناً في الرأي أكثر مما توسع فيه فقهاء الرأي في العراق، كاستعماله الرأي والقياس فيما اتضح معناه من الحدود والكفارات، مما لم يقل به علماء المذهب الحنفي؛ وانظر الأصول العقلية المعتمدة في المذهب المالكي في مقدمة تحقيق: شرح التلقين لأبي عبد الله محمد بن علي بن عمر التميمي المازَري المتوفى 536هـ (1/6)، ت/ حامد المحلّاوي، ط/ دار الكتب العلمية – بيروت، بدون طبعة.

([2]) إذا أطلق الإمام مالك لفظة الرأي فإنّه يعني بها فقهه الذي يكون بعضه رأياً اختاره من مجموع آراء التابعين، وبعضه رأياً قد قاسه على ما علم، ومن ثم فإنّ باب أصول فقه الرأي عنده، هو ما عليه أهل المدينة، وعلم الصحابة والتابعين؛ ويمكن تلخيص ذلك في قاعدة جلب المصالح، ودرء المفاسد، التي عليها مدار مذهبه، بل مدار مقاصد الشريعة الإسلامية؛ فهذا هو أساس الرأي عنده مهما تعددت ضروبه واختلفت أسماؤه؛ فإنّ أخص ما امتاز فقه مالك به، هو رعاية المصلحة واعتبارها، لهذا فهي عمدة فقه الرأي عنده، اتخذها أصلاً للاستنباط مستقلاً.

([3]) انظر: مقاصد الشريعة كفلسفة للتشريع الإسلامي – رؤية منظومية لـ د. جاسر عودة، تعريب: عبد اللطيف الخياط (ص393)، ط/ المعهد العالمي للفكر الإسلامي، الطبعة الأولى 2012م.

([4]) سير أعلام النبلاء لشمس الدين الذهبي (1/54).

([5]) حصره العلم –رحمه الله- في هؤلاء الثلاثة -مع علو كعبهم في العلم- أمرٌ يحتاج إلى توقفٍ ونظرٍ، خاصةً وأنهم في عصر يموج بالعلم والعلماء، فهو من أزهى مراحل الاجتهاد في تاريخ الأمة الإسلامية، فكونه محصوراً في هؤلاء الأعلام الثلاثة أمرٌ مستبعدٌ، بل ومُستغربٌ، والله أعلم بالصواب؛ ولعله صدر منه من باب المُبالغة المُصاحبة للإطراء.

([6]) انظر: المرجع السابق (1/55).

([7]) وذلك عند ما سُئل عن صحة أصول مذهب أهل المدينة، وعن منزلة الإمام مالك المنسوب إليه مذهبهم في الإمامة والديانة؛ وضبطه علوم الشريعة عند أئمة علماء الأمصار، وأهل الثقة والخبرة من سائر الأعصار.

([8]) رواه البخاري في صحيحه، كتاب الشهادات، باب لا يشهد على شهادة جور إذا أشهد، رقم: [2652]؛ ومسلم في صحيحه، كتاب: فضائل الصحابة، باب: فضل الصحابة ثم الذين يلونهم، رقم: [2533].

لكن جملة مذاهب أهل المدينة راجحةٌ في الجملة على مَن سواهم، وذلك يظهر بقواعد جامعة، وهنا أطال ابن تيمية في الحديث عن أبواب الفقه وقواعده التي كان الصواب فيها حليف مذاهب أهل المدينة([1])؛ إنتهى كلامه بتصرف.

وأما عن أصول المذهب المالكي وفروعه فيقول الشيخ محمد أبو زهرة: تنمو فروع المذهب، وتتسق آثار التفكير فيه بخصب أصوله، وتعدد المصادر فيه، وسعة مدى التفكير الذي يفتحه لأنفسهم القائمون على المذهب من بعد الإمام، وتعدد الأجواء الفكرية التي يجتهدون فيها؛ وقد كان هذا كله في المذهب المالكي، فمناهجه خصبة ومتعددة، وتلاميذ الإمام ومَنْ بعدهم قد وسعوا مدى تفكيرهم في تطبيق أصول إمامهم؛ وكثرت الأقطار التي أخذ فيها بالمذهب المالكي وتباينت أحوالها؛ وكان من فقهاء هذا المذهب من جمع بين الفقه العميق والفلسفة والحكمة، وإنَّ تخالف الأقاليم وتباينها وتباعدها، مع كثرة أسباب الاجتهاد، وخصب المناهج، سبب في كثرة الأقوال في المذاهب؛ وكانت تلك الكثرة في الأقوال جنابًا([2]) خصيباً يجد فيه الباحث في الفقه المالكي ثمرات متنوعة، وألواناً من المنازع الفقهية صالحةً، وتوافق البيئات المختلفة، وتوائم الأقطار المتباينة في أعرافها وعاداتها، وخصوصاً أن العرف والعادة كان لهما مقامٌ في الاستنباط في الفقه المالكي؛ وكان المفتى بهذا بين يديه آراء مختلفة يتخير من بينها، إذا لم يفتح لنفسه باب الاجتهاد مع التمسك بالأصول المقررة في المذهب([3]).

من المعلوم أنّ الإمام مالكًا رضي الله عنه لم يدون الأصول التي بنى عليها مذهبه واستخرج على أساسها أحكام الفروع، والتي قيد نفسه في الاستنباط بقيودها، وقد كان في ذلك شأن معاصره أبي حنيفة وغيره من الأعلام المعاصرين له والسابقين.

وأدق إحصاءٍ لأصول المذهب المالكي ما ذكره القرافي في كتابه شرح تنقيح الفصول، الذي ذكر أنَّ جِمَاع أصول مذهب الإمام مالك -بناء على ما صرح به أو أشار إليه أو استنبطه فقهاء المذهب من الفروع المنقولة عنه، والآراء المدونة في موطَّئه– هي: الكتاب، السنة، الإجماع، إجماع أهل المدينة، القياس، قول الصحابي، المصلحة المرسلة، العرف والعادات، سد الذرائع، الاستحسان، الاستصحاب([4]).

قال شيخ المدونة الفقيه الحافظ أبو زيد عبد الرحمن بن عفان الجزولي (ت/741هـ):

“روى أبو الفضل راشد بن أبي راشد الوليدي عن شيخه أبي محمد صالح الهسكوري أنّ: الأدلة التي بنى عليها مالك مذهبه ستة عشر: الأول: نص الكتاب، والثاني: ظاهر الكتاب وهو العموم، والثالث: دليل الكتاب وهو مفهوم المخالفة، والرابع: مفهوم الكتاب وهو مفهوم الموافقة؛ والخامس: تنبيه الكتاب وهو التّنبيه على العلة.

ومن السنة أيضًا مثل هذه الخمسة، فهذه عشرة.

والحادي عشر: الإجماع، والثاني عشر: القياس، والثالث عشر: عمل أهل المدينة، والرابع عشر: قول الصحابي، والخامس عشر: الاستحسان، والسادس عشر: الحكم بسد الذرائع.

ثم قال: واختلف قوله في السابع عشر وهو: مراعاة الخلاف فمرة يراعيه ومرة لا يراعيه”([5]).

وقد نظم هذه الأصول بعضهم في قوله :

ست وعشـر انبنى عليـها
كتـابٌ السنة والإجمـاع ثمْ
سد الذرائع والاستحسان معْ
قول الصحابي مرسل المصلحةِ
تصديق معصومٍ والاستقـراءِ

***
***
***
***
***

مذهب مـالك فمـل إليـها
قياس استدلال استصحاب ضم
بـراءة أصلـية خلف يقـع
كـذاك أيضاً عمـل المـدينة
والأخـذ بالأخـف ذا انتهـاء([6])

([1]) ثم قال: وهذا باب يطول استقصاؤه؛ وقد ذكرنا من ذلك ما شاء الله من القواعد الكبار في القواعد الفقهية وغير ذلك؛ وإنما هذا جواب فتيا، نبهنا فيه تنبيهاً على جمل يعرف بها بعض فضائل أهل المدينة، فإنّ معرفة هذا من الدين، فبيان هذا يشبه بيان علم الصحابة ودينهم، إذا جهل ذلك من جهله، ومذاهب أهل المدينة، وترجيح ذلك على غيرها من مذاهب أهل الأمصار أعظم أمور الدين. انظر: مجموع الفتاوى لتقي الدين أبي العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني المتوفى 728هـ (20/294-396)، ت/ عبد الرحمن ابن قاسم، ط/ مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف – المدينة النبوية، الطبعة الأولى 1995م.

([2]) يُقال: فلان خصيب الجناب، أي: خصيب الناحية. انظر: لسان العرب (1/279)، جذر: جنب.

([3]) انظر: تاريخ المذاهب الفقهية والإسلامية المعاصرة للشيخ محمد أبو زهرة (ص404)، ط/ دار الفكر العربي – القاهرة، الطبعة الأولى بدون تاريخ.

([4]) انظر: شرح تنقيح الفصول في اختصار المحصول في الأصول لأحمد بن إدريس القرافي شهاب الدين أبي العباس (ص350)، ط/ دار الفكر – بيروت، الطبعة الأولى 1424هـ – 2004م.

([5]) شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني لتلميذ الوليدي؛ أبي زيد عبد الرحمن الجزولي (ق/50) قطعة القرويين برقم: 1148.

([6]) ومن هذه الأُصول يتبين لنا خصوبة المذهب وسعته، وإمكان تخريج الأحكام على أصوله الملائمة لكل عصر ومكان، لا سيَّما على أصل المصلحة المرسلة الذي اصتبغ بها جلُّ فقه الإمام مالكٍ في كل المسائل التي لا نص فيها، حتى قرن اسم المصالح المرسلة بمذهب مالك.

كما أنَّه يتبين لنا من كثرة هذه الأصول مقام الإمام مالك في فقه الرأي، فقد اشتهر به على خلاف المعهود من فقهاء مدرسة الحجاز، وأكثر من الأخذ بهذا الأصل، حتى صار قِوام اجتهاده بالرأي يقوم على أساس المصلحة؛ وربما أخذ بالقياس أو المصلحة وترك خبر الآحاد بناءً على أنَّ مخالفة الخبر للمصلحة، أو للقياس الثابت المبني على قواعد الشريعة دليلٌ على ضعف الخبر وعدم صحته، ومن ذلك عدم أخذه بخبر المصراة لمخالفته –في نظره– للقياس القطعي المبني على قواعد الشريعة الثابتة. انظر: المدخل لدراسة الشريعة الإسلامية لـ د. عبد الكريم زيدان (ص137-138)، ط/ مؤسسة الرسالة ناشرون – بيروت الطبعة الأولى 2005م.

تم هذه العُجالة بمن الله وفضله وصلى الله على سيدنا ومولانا محمدٍ وعلى آله وسلَّم تسليمًا كثيرًا، ورضي الله عن صحابته أجمعين، وعنَّا بهم يا أرحم الراحمين.